وضع داكن
29-11-2024
Logo
الصحابة الكرام : 08 - سيدنا حمزة بن عبد المطلب
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

أطوار الدعوة الإسلامية :

أيها الأخوة الأكارم, وأنا في طريقي إليكم لاحت أمامي فكرةٌ يمكن أن تكون مقدِّمةً لدروس السِّيرة، لو أنَّ إنساناً يتيه في صحراءَ موحشةٍ، أو في غابة فيها وحوشٌ مفترسة، أو في أرضٍ وَعرةٍ فيها مخاطرُ ثابتةٌ، وأنت رأيته في هذه الحالة الخطيرة التي تدعو إلى الشَّفقة، مهمتك الأولى أن تدعُوَه إلى مكانٍ آمنٍ، إلى حصنٍ حصينٍ، إلى بستانٍ مَحاطٍ، إلى قصرٍ مُنيفٍ، فإذا رضي واستجاب لك، ودخل هذا البستان الآمن أو إلى هذا القصر المنيف، فقد أصبح لك مهمَّةٌ ثانيةٌ، وهي أن تعرِّفَه مداخل هذا القصر ومخارجه، وأماكن النوم، وأماكن الرَّاحة، وأماكن الطَّعام فلمّا كان خارج القصر كانت له طريقة في التوجيه، فإذا دخل إلى القصر فله طريقة أخرى .
فحينما تدعو إلى الله عز وجل ورأيتَ إنساناً شارداً تائهاً عاصيًا مقيماً على معصية, عقيدته زائغة، تصَوُراته غير صحيحة، هذا الإنسان عليك أن تدعوَه إلى الله، عليك أن تقنعه بأحقِّية هذا الدِّين، عليك أن ترشده إلى طريق الحق، فإذا استجاب وسلك هذا الطريق عليك أن تبيِّن له الجزئيات, الأمرَ الإلهي, النَّهي الإلهي, حقيقة الدُّنيا، فمهمة الدَّاعية إلى الله عز وجل تجاه الإنسان الشَّارد لها طبيعة، وبعد أن يستجيب هذا الإنسان فللدعوة طبيعة أخرى، فحينما نخاطب أخوةً كراماً مؤمنين آمنوا بالله عز وجل، آمنوا بوجوده، آمنوا بكمالاته ووحدانيته، وآمنوا برسوله و بكتابه، هؤلاء الأخوة الأكارم الذين استجابوا لله، يجب أن نبصِّرهم بدقائق الأفعالِ, وبدقائق السُّنة, وبدقائق الأحكام الفقهية, وبطبيعة المنهج الدَّقيق الذي ينبغي أن يسيروا عليه، هذه مهمة ثانية .
لذلك طلب العلم لا ينقطع بل يستمر ما دام المسلم حيًّا، لكن في كل طوْرٍ هناك موضوعاتٌ ينبغي أنْ نُعْنى بها، هذا ما حصل تماماً في عهد الصحابة الكِرام، ففي المرحلة الأولى كانت الدعوة إلى الله والإيمان به, والإيمان باليوم الآخر والرسُل والملائكة والقدر خيره وشَرِّه، وكانت دعوة إلى التفكُّر في الكون، وإلى إقام الصلاة، ودعْوةٌ إلى ضبْط الشهوات والالْتِزام, والتضْحِيَة، والهِجْرة .
فلما اسْتجاب أصحاب النبي لله وللرسول فيما دعاهم إليه وهاجَروا معه واسْتَقَروا في المدينة، جاءَتْ آياتُ التشريع, آية الدَّيْن وأحكام الطلاق، والزواج، وأحْكام البيْع، فَنَحْنُ في مسيرتنا في هذه الحياة، نَطْلُب العلم دائِماً ولكن في كلِّ مرحلةٍ، ونحْتاج إلى موضوعات خاصَّةٍ بها، نحن آمنا بالله ورسوله وكتابه، ثم نريد أنْ نقْتَدِيَ بأصْحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم، بهؤلاء الذين خصَّهم الله بالنبيِّ عليه الصَّلاة و السَّلام، بهؤلاء الذين رضي الله عنهم، بهؤلاء الذين اختارهم الله لصُحبة نبيه عليه الصَّلاة والسَّلام، بهؤلاء الأبطال الذين وصفهم النبي عليه الصَّلاة والسَّلام, فقال: "علماء حكماء كادوا بفقههم أن يكونوا أنبياء " هؤلاء الذين كانوا قادة ألوية النبي عليه الصَّلاة والصلاة والسَّلام، وكانوا رسلَه إلى بقية الأمم والشُّعوب .
لذلك فقراءة سيرتهم جزءٌ أساسيٌّ من الدِّين، بعد أن آمنتَ بالله ورسوله و كتابه واليوم الآخر، وبعد أن التزمتَ وطبَّقتَ واستجبتَ, بقي عليك أن تفهم دقائق مواقف هؤلاء الصَّحابة .

ينبغي على المسلم أن لا يتخذ من نفسه مشرعاً ويدلو بقرارات يحكم بها على الآخرين بعدم الخيرية :

صحابيُّ اليوم, هو سيِّدنا حمزة بن عبد المطَّلب, عم النبي عليه الصَّلاة والسلام، قد يقول قائلٌ: هذا الصحابي درسناه قبل ثماني سنوات، تماماً كما تجد نصًّا في المرحلة الإعدادية، وتجده في المرحلة الثَّانوية، والنصُّ نفسه في المرحلة الجامعية نحن لمَّا نريد أن نعطيَ الأخوةَ الأكارم دروسًا في السِّيرة، ولاسيما سير الصَّحابة الكرام، نريد أن نستنبط من سيرهم حقائق نستعين بها في هذه الحياة المعاصرة، لا نريد أن ندرس هذه السِّير كتاريخ، نريد أن ندرسها كوقائع يمكن أن نستنبط منها قواعدَ وعبراً وحقائق ومبادئ نستعين بها في تعاملنا مع الله، ومع أهل الحق، ومع عامة الناس, فمن السذاجة، ومِن ضيق الأفق, ومِن عدم النضج، ومن أخلاق الغوغاء والعامة, أن تقول: هذا أبيض وهذا أسود, وليس بينهما لونٌ آخر، هذا مؤمن وهذا كافر، هذه النظرة الحادَّةُ المتطرفة، هذه الأحكام الحدِّية القاسية، هذه ليست من صفات أهل الإيمان .

فمثلاً: في العهد الذي أُرسِل به النبي عليه الصلاة والسلام وجاء بالقرآن الكريم, كان الناس في مكة غارقين في الشَّهوات، غارقين في المعاصي والآثام، غارقين في أكل المال الحرام، غارقين في الطُّغيان والعدوان، غارقين في الكِبْر، غارقين في البَطَرِ، هؤلاء الكفَّار الفجَّار المشركون، بينما كان في الطَّرف الثَّاني النبيُّ عليه الصَّلاة والسلام, قمَّة البشر, سيِّد الخلق, حبيب الحق، ومعه أصحابٌ مخلصون, مجاهدون تائبون, عابدون سائحون, راكعون ساجدون، هؤلاء في قمَّة الرُّقي والمجد، وأولئك الكفرة في حضيض الدناءة والاحتقار, السؤالُ الآن, أليس بين هؤلاء ناسٌ لا من هؤلاء و لا من هؤلاء؟ هذا الذي أتمنَّى عليكم أن تعرفوه .
أنتَ مؤمن تصلي وتصوم ومستقيم، وتغدو وتروح إلى مسجد، ولك مجلس علم، ولك أخوان، وتعرف الحق من الباطل، شيءٌ جميل، وهناك شخصٌ في حياتك, فاجر عاصٍ، شارب خمرٍ، زانٍ، باغٍ، عاتٍ، أليس ممَّن حولك شخصٌ لا من أخوانك ولا من أولئك الفجرة, إنسان لم يُصَلِّ بعد، لكنْ له أخلاقٌ ترضي، وقدً لا يحبُّ الانحراف، ويفي بالوعد، وينجز العهد؟ هذا الذي لا من هؤلاء ولا من أولئك، ليس لك أن تُقَيِّمه تقييمًا سيِّئًا، بل عليك أن تلتفت إليه .
فالنبي عليه الصلاة والسلام و أصحابه الكرام الذين سبقوا إلى الإسلام كانوا في قِمَّة الطُّهر والعفاف والمجد، وكان كفَّار قريش في حضيض الدناءة والبغي والطُّغيان، أمَّا سيدنا حمزة فلم يكن مسلماً بعد، لكن كان شهماً، وكان صاحب مروءة، شجاعاً يأبى الظلم والدناءة، فإذا رأيتَ أيها الأخ الكريم إنساناً أخلاقيًّاً يفي بالعهد، ولا يكذب، لكنه ليس ملتزِمًا، فلا ينبغي أن تُقَيّمَه تقييماً سيِّئاً لأنه تاركٌ للصلاة فقط، هذا كما يُقال: خامةٌ طيِّبةٌ، هذا عنصرٌ جيدٌ، لو وجَّهته، وسدَّدتَ خُطاه، وعلَّمتَه ودرَّبتَه، وفقَّهتَه، ودفعتَه إلى الله عز وجل لاستجاب، فمن السذاجة وضيق الأفق، بل من الغباء أن تقول: أبيض أو أسود فقط، بين الأبيض والأسود مئات الألوف من الألوان التي لا هي في نصاعة البياض، ولا في قتامة السَّواد، هذا هو الموقف المعتدل والمنصف، ولو أنك كلما شاهدتَ إنساناً بعيدًا عن مسجدك، فحكمتَ عليه بالكفر ولم تعبأ به، فأنَّى لك أن تكون هادياً للناس؟ وأنى لك أن يستخدمك الله في الدعوة إليه؟ عندئذٍ لا تُصْلِح .
لذلك أنا أتمنَّى على الأخوة الأكارم رحابة الصَّدر، واتساع صدورهم لكل الناس، لكل من هو على شاكلتهم، أو ليس على شاكلتهم .

 

ما هي وظيفة المسلم في الحياة الدنيا ؟

لا أكتمكم أنني أنطلق من فكرة، أتمنَّى على الله عز وجل في هذا الدرس أن أوضِّحها لكم، أنتم رُوَادُ هذا المسجد، ونحن جميعاً طرفٌ واحد، تؤمنون بما أنا به مؤمن، وتصدِّقون بما أنا به مصدق، لأننا آمنَّا بالله عز وجل, وآمنا بكتابه, واستجبنا له، ولكن متى ترتفعون عند الله عز وجل؟ إذا ضممتم إليكم أناسًا من الطرف الآخر، أنت تجلس مع أخوانك فتأنس بهم، تحدِّثهم ويحدثونك، تتفاعلون وتتصافون وتحلقون، ولكن هل أضفتم إلى المجتمع الإسلامي عناصر جديدة ؟ هل حاورتم الطَّرف الآخر؟ هل لك صديق لا يصلي؟ هل لك صديق يحدِّث نفسه إطلاقًا في أن يأتي إلى مجالس العلم؟ هل تقنعه بحضور مجلس علم؟
أردتُ من هذه النقطة, ومن هذا النص الذي أمامي أنه ينبغي أن تضيف إلى مجتمع المؤمنين عناصر جديدة من مجتمع غير المؤمنين، هنا البطولة، وأنا أثني على كل لقاء بين الأخوة الأكارم لتمتين علاقتهم بالله، وأنا أحضُّ على هذا اللقاء، كما قال تعالى:

﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾

( سورة سبأ الآية: 46)

هذا أمرٌ إلهي أن تجلس مع أخوانك في الأسبوع مرَّة، بحسب القرب والمكان، وبحسب العمل والعلاقات الاجتماعية، وتحدثهم عمَّا أفاض الله عليك، وعما عقلتَه من درس الجمعة، أو من درس السبت، أو من درس الاثنين، أو من خطبة الجمعة، عن موقف تأثَّرتَ به أشدَّ التأثُّر, هذا اللقاء أنا أباركه وأحضُّ عليه، وأتمنَّى أنْ يكون لكل واحد منكم مثل هذا اللقاء، ولكن هذه اللقاءات ماذا تفعل؟ توطِّن علاقة الأخوة الأكارم بربهم، وتمتِّن علاقتهم بدينهم، وبمنهلهم وبمشربهم الدِّيني ، وبمسجدهم، وهذا شيء جميل .
لكن ينبغي أن يكون لك نشاطٌ آخر، هؤلاء الأخلاقيون الذين لا يرتادون المساجد، هؤلاء الطيِّبون الذين شرَدوا عن الله عز وجل، هؤلاء الذين تأنسون لهم، لكنكم لا ترضون عنهم، قد يكون هناك شخص وحش، هناك شخص دنيء، ساقط، منحرف، متكبِّر، هذا دعونا منه، ولكنْ هناك شخص من جلدتك، من أخوانك، من أقرب الناس إليك، هذا أيضًا تأنس به وترتاح له، وكذلك هناك شخص ممن يلوذ بك, قريب أو وصديق أو جار أو زميل أو صاحب بالجَنب، هذا لا ترْضى عن سُلوكه، ولكن ترْتاحُ له، وحينما ترْتاحُ له، فهذا يعْني أنه ينْطوي على نفْسٍ طيِّبَة، هذا ينْبغي أنْ تسْعى لِإقْناعِهِ أنْ يسْلك طريق الإيمان، وهذا الذي ترتاحُ له ولا ترْضى عن سُلوكه ينْبغي ألاّ يكون خارج الحِساب، وخارج اهْتِمامك، هذا الذي أتمناهُ عليكم .
فما المانع أنْ تدْعُوَ أقارِبَك الذين تتَوَسَّمُ فيهم الخير إلى حفلٍ بسيط في منزلك، وتَدْعُوَهم في أثناء اللقاء إلى سُلوك طريق الإيمان والالْتِزام بالدين، والصُّلْح مع الله، وإلى معْرِفَتِه؟ فإن كُنت قادِراً فافْعَل، وإنْ لم تكُن قادِراً, فما الذي يمْنَعُك أنْ تدْعُوَ من يقْدُر على تَوْجيهِهِم إلى بيْتِك؟ فإذا اسْتَجاب عدد من الذين شَرُدوا على الله عز وجل وتأثَّروا فهذا في صحيفتك عند الله .
لقد سمعتُ قِصَّةً تأثَّرْتُ لها، هذه القِصَّة أنَّ رجُلاً ممن شرد على الله، وممن آمن أنه لا إله أيْ أنه مُلْحِدٌ، في الخامسة والأربعين، أو الخمسين من عُمُره اهْتدى إلى الله، وبدأ يُصلي، له ابنٌ صالِحًٌ، فَمِن شِدَّة فَرَحِ ابنه أنَّ أباهُ بدأ يُصَلي، هذا الابن أقام موْلِداً في بيْتِهِ، ودعا أصْدِقاء والده، فكلَّف أحد علماء دِمَشْق لإِلْقاء كلمة على هؤلاء الشارِدين، أصْدِقاء هذا المُلْحِد, ألْقى عليهم كلمة فيها كُلُّ العَقْلانية والمنطق والأدِلَّة

فهذا الابن, يقول: لم ينتهِ هذا الاِحْتِفال إلا وخَمْسَةٌ من أصْدِقاء والده اصْطَلَحوا مع الله, فالبطولة لا أنْ تُفْسِد إنْساناً على شَيْخِهِ, دِمَشْق فيها خمسة ملايين ، كم من مُصَلٍّ فيها؟ نِصْف مليون أو أكثر، فهؤلاء أربعة الملايين الشارِدين عن ربِّهم ابذل من نفسك لهم، ولِهَؤُلاء الذين لا يُصَلون، ولِهَؤُلاء الذين أُلْبِسوا شُبُهاتٍ حول الدِّين، وظنوا أنَّ الإسلام شيءٌ قديمٌ، وأنَّ الأديان أشياءٌ غَيْبِيَّة لا علاقة لها بِالواقع، فأنت إذا أردتَ أنْ ترقى عند الله يجب أنْ تنْطلق في حِوار الطَّرَف الآخر، لا أنْ تبْقى على الطَّرف الواحد، فالبُطولة في إقْناعِ الطَّرَف الشارِد .
أردتُ من هذه المُقَدِّمة أنْ أبيِّن أنَّه في عهْد النبي عليه الصلاة والسلام كان النبي قِمَّةً في الحُبِّ والوَرَعِ والإقْبال والسُّمُوِّ وإنْكار الذات والشَّوْق لربِّه، وكان أُناسٌ في مكَّةَ في حضيض الانْحِطاط والدناءة والأَثَرَة والكِبْر والبَغْي والأنانية والعُدْوان، وكان أُناسٌ لم يؤمنوا بِمُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام، وليْسوا في هذا المُسْتوى الوَضيع الذي انْحدر إليه كُفارُ قريش، من هؤلاء سيِّدُنا حمزة بن عبد المُطَّلب رضي الله عنه وأرْضاه .

العبر التي يمكن أن نستنبطها من مواقف حمزة بن عبد المطلب قبيل إسلامه مع ابن أخيه :

1- شفافية حمزة بن عبد المطلب :

كان سيدنا حمزة مرَّةً في فناء الكعبة، حيثُ سادة قريشٌ يتحادثون، فجلس معهم ليسمع ما يقولون، وكانوا يتحدَّثون عن محمد صلى الله عليه وسلم، ولأوَّل مرَّةٍ رآهم يقلقون على مصيرهم من هذه الدعوة الجديدة، ويُعبِّرون عن حقدهم وغيظهم وعن مرارة قلوبهم، كان هو متفائلاً معتدلاً واقعيًّا، فلم يبالغ هذه المبالغة، ولم ينطوِ على هذا الحقد، وهو ليس على دين محمد ، ولكن لا ينطوي على حقد على ابن أخيه، ولا على كُرهٍ للحق، هذا الذي أريده, هؤلاء الذين لم يقاتلوكم في الدين، قال الله عز وجل: 

﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ 

( سورة الممتحنة الآية: 8 )

لو أقمـتَ علاقةً مع إنسان لك ثقة بأخلاقه، لكن لا تراه ملتزِماً، هذا الذي أتمنَّى أن استنبطه من هذه القصَّة، فكان سيدنا حمزة كلما طُرِح موضوعُ النبي عليه الصلاة والسلام مع أنه لم يكن على دينه, كان يرى أنَّ ابن أخيه على حقٍّ، ولم يفكِّر أنْ يؤمن به، لكنه كان يدافع عنه، هؤلاء الحياديون ينبغي أن نقرِّبهم إلينا, لا أن نبعِّدَهم عنَّا، أحيانًا يكون أخٌ منا ملتزماً بالدين وله قريب متلبِّسٌ بمعصيةٍ أو مخالفة، فيكَفِّرُه بها، ويحاربه، هذا ليس من الحكمةِ إطلاقًا, هذا موقف غير حكيم، وغير إسلامي، ولا يُرْضي الله عز وجل، فهذا موقفٌ مُنَفِّر، إذْ إنه ما عاداك، وما هاجمك، ولا نال منك، ولكنه ليس على شاكِلَتِك، ليس على الْتِزامك، فأنت عليك أنْ تُحْسن إليه، وأنْ تصِله وتزوره وتُقَدِّم له بعض الخدمات، وتريه منكَ الكمال، وعليك أنْ تُرِيَهُ العِفَّة والإحسان ، حتى يُوازن فيقول: هذا إنسانٌ عظيمٌ .

2- حمزة لم يبخس قدر ابن أخيه على الرغم من تقارب العمر بينهما واختلاف الدين :

هناك اسْتِنباط آخر من هذه القِصَّة، فأكثر الأشْخاص عامِلُ السِنِّ حِجابٌ بينهم وبين الله, مثلاً إذا كان أكبر من هذا الذي يدْعو إلى الله سِناًّ, لا يسْتمع إليه، لذلك دائِماً عقدة الآباء مع أبنائِهم ، فالأب يقول: هذا ابني، أنَّى له أن يسْبِقَني، وقد يسْبِقُ الابن أباهُ، قال تعالى:

 

﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً﴾

( سورة مريم الآية: 43 )

فَسَيِّدُنا حمزة مع أنه كان عمَّ النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك عرف قَدْرهُ وصِدْقَهُ، وعرف أمانته وإخْلاصه وقيمته عند الله عز وجل، فالسُّعداء أيها الأخوة, لا يمْنعهم فارق السِّنِّ من أن يسْتمعوا وأن يتَّبِعوا .
أحْياناً يكون الشخْصُ مدير ثانويَّة لا يُمْكن أنْ يسْتجيب لِمُعَلِّمٍ عنده، كذلك طبيبٌ كبير لا يسْتجيب لِمُمَرِّض، مديرٌ عام لا يسْتجيب لِمُوَظَّف صغيرٍ عنده، ففارق المرتبة الاجتِماعِيَّة والسِّن أو فارق المستوى الاقتِصادي، هذا حِجابٌ بين العبد والحقّ، فَسَيِّدُنا حمزة وهو عمُّ النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك عرف قَدْره، بل إن العباس رضي الله عنه لشدَّة أدبه مع رسول الله, سُئِلَ مرَّةً : أيُّكُما أكبر أنت أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو أكبر مني، وأنا وُلِدْتُ قبله، أحْيانًا أنت تحمل شهادة، ويُلْقي الله في قلب إنسان أقلَّ منك عِلمًا، وتكون أنت من ذوي الشهادات العاليَة, يُنْطِقُهُ بالحِكمة، ويُلقي في قلبه السكينة، فلا يكون فارق السنِّ، ولا فارق الشهادة، ولا فارق المرتبة الاجتِماعِيَّة حِجاباً بينك وبين الحقّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ))

[أخرجه الترمذي في سننه عن أنس بن مالك]

التدين فطرة في كيان الإنسان هذا ما يؤكده واقعه :

مرَّ معنا حديثٌ شريف منذ يومين في درس الفجر أنَّ الرجل قد يبْدو بليغاً، طليق اللِّسان ، ووسيمَ المنظر، لا شأنَ له عند الله، وقد تجد إنساناً في مقاييس البشر في الدرجة الدنيا، وله عند الله شأنٌ عظيم,

((كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ))

[أخرجه الترمذي في سننه عن أنس بن مالك]

لذلك هذا الأخلاقي الذي لا يُصلي أنت ترتاحُ له، ولكن لا ترْضى عن سُلوكه هذا الإنسان بالذات, لا بد أنْ يأتِيَ يومٌ يسْتجيب فيه لله عز وجل, أخْلاقِيَّتُهُ ونظافَتُهُ ومُروءَتُهُ هذه تُعينه على طلب الحقّ، فَسَيِّدنا حمزة خرج من داره مُتَوَشِّحاً قوسه، ومُيَمِّماً وجْههُ شطر الفلاة لِيُمارِس هِوايَةً يُحِبُّها, إنها الصَّيْد، وكان صاحِبَ مهارَةٍ فائِقَة فيها، قضى هناك بعض يومه، ولما عاد من صَيْده ذهب كَعَادتِهِ إلى الكعبة لِيَطوفَ بها قبل أنْ يقْفِلَ راجِعاً إلى داره، ماذا نسْتنبط من هذا؟ الإنسانُ مُتَدَيِّن بالفِطْرة .
الآن اذْهب إلى أيِّ مكانٍ في العالم, اِذْهب إلى شرق آسيا تجد مُثَقَّفين يدخُلون معْبد بوذا ، ويُمارِسون طقوساً مُعَيَّنَة أمام صَنَمٍ كبير، وأمام هذا الصَّنم فواكه كثيرة توضَع لِيَأكلها ليلاً، والذين يأكُلونها هم الرُّهبان، وحتى الإنسان الذي له مرتبة اجْتِماعِيَّة وسِياسِيَّة يقْصد كاهِناً أو عرافاً لِيَسْتَنْبِئه الغيب، وهذه كُلُّها إشارات إلى أنَّ الإنسان مُتَدّيِّنٌ بِالفِطْرة، فإما أنْ يتعلَّق بِالخُرافات والأباطيل والأكاذيب، وإما أنْ يتعلَّق بالحقّ فلا بد أنْ تكون عبْداً, إما أنْ تكون عبْداً لِخُرافَةٍ، أو لِفِكْرةٍ تافِهَة مغْلوطة، أو أنْ تكون عبْداً لله عز وجل, حتى على مُستوى عامَّة الناس تجده يُقيمُ على كلَّ المعاصي

لكنَّهُ لا بد أنْ يتبرَّك بِهذا الولِيِّ، ولا بد أن يذْبح خروفاً على روح فلان، فهؤلاء العُصاة والمُنْحَرِفون لهم سُلوكٌ ديني - غير صحيح طبْعاً- فالتَدَيُّن بِالفِطرة، فهؤلاء الذين ينْدَفِعون للكَهَنَة من العُصاة، إنما ينْدفِعون بِفِطْرتهم، لماذا ينْدفعون لهذا؟ لأنّ الإنسان ضعيف يُحِبُّ أنْ يلْجأ إلى قَوِيّ، وكل الخُرافات الدِّينِيَّة منْبعُها هذه الحاجة الفِطْرِيَّة إلى التدَيُّن .
قريباً من الكَعْبة لَقِيَهُ خادِمٌ لِعَبْد الله، ولم تكد تبصرُه حتى قال له: يا أبا عُمارة - وهي كنية سيدنا حمزة- لو رأيتَ ما لقيَ ابن أخيك محمدٌ آنفًا من أبي الحكم بن هشام، فآذاه وسبَّه، وبلغ منه ما يكره، فسيدنا حمزة بكل مروءته وشهامته وغيرته، وبكل إنصافه توَشَّح سيفه، واتَّجه ليقتصَّ من أبي الحكم بن هشام، بحث عنه فإذا هو في جوار الكعبة، تقدَّم نحوه، واستلَّ قوسه، وهوى به على رأسه فشجَّه وأدماه، وقبل أن يفيق الجالسون من الدهشة صاح حمزة بهم وصاح في أبي جهل: أَتَشْتُمُ محمَّداً وأنا على دينه، أقول ما يقول؟ أسلم سيِّدنا حمزة، ولكن بِمَوْقفٍ ارْتِجالي، وموقف دفعته إليه حَمِيَّتُهُ لابن أخيه، وإنْصافُهُ وغَيْرَتُهُ، أسْلم وتحَدى المُشْرِكين .

حالتا الشك واليقين التي مر بهما حمزة أثناء إسلامه :

أيها الأخوة, أدَعُكُم معه لِيُعبِّر عن حالةٍ نفْسِيَّة ألمَّتْ به

يقول سيِّدنا حمزة: أدْركني النَّدَم على فِراقي دين آبائي وقَوْمي, وبِتُّ في شكٍّ من أمرٍ عظيم، لا أكْتَحِلُ بِنَوْم، ثمّ أتَيْتُ الكعبة وتضرَّعْتُ إلى الله أنْ يشرح صدْري، مفْهوم الإله مفْهومٌ عامٌ في كلِّ مكان وزمانٍ، وفي كلِّ مِصر .
فاستجاب الله لي، وملأ قلبي يقيناً، وغدوتُ إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأخبرتُه بما كان من أمري، فدعا الله أن يثبِّتَ قلبي على دينه، كذلك هنا استنباط, أنتَ لك علاقة مع الله مباشرة، لك ابتهالات، لك سؤال إلى الله، لا شكَّ أنَّ في حياتنا أشياءَ مُحَيِّرةً، أحياناً يلجأ إلى الله, يا رب أنت تعلم وأنا لا أعلم، دُلَّني بك عليك، دُلَّني على رجلٍ يُحِبُّك, إنْ كان هذا يُحِبُّك وتُحِبُّه فألْقِ حبي فيه، إنْ كان هذا على الحق فاجْعَلْني أميل إليه، فاجْعل بينك وبين الله سُؤالاً وعلاقة، كما فعل سيِّدُنا الحمزة .

الخير الكبير الذي دخل على النبي والمسلمين حينما اعتنق حمزة الإسلام :


النبي عليه الصلاة والسلام حينما دخل سيِّدُنا حمزة في الإسلام كان هذا مَكْسَبًا كبيرًا لِذلك أنا أقول لكم: كُنْ شَخْصاً لامِعاً, إما في الدِّراسة، أو في العمل، أو في التِّجارة, أو في الزِّراعة, أو في الصِّناعة، ِحَيْث إذا عرف الناسُ أنَّك مؤمن بالإسلام اعتزُّوا بك, هناك من يَعْتَزُّ بالإسْلام، وهناك من يعْتَزُّ به الإسْلام، فإذا كان ذاك مُتَفَوِّقًا، وهو يغُضُّ بصره عن محارم الله, فشيء عظيم، والناسُ لا يُطَأطؤون لك إلا إذا رأوا تَفَوُّقاً في اخْتِصاصِك، عندئِذٍ يَحْتَرِمونك، ويَحْتَرمون دينك، ويحْتَرمون المنهل الذي تشرب منه .

 

 

إليكم حديث وحشي كيف خطط لقتل حمزة فأصاب رمحه ؟

كلكم يعلم أنّه في معْركة بدْرٍ قُتِل أبو جَهْل، وعُتْبَة بن ربيعة عبد، وشيْبَة بن ربيعة، وأُمَيَّة بن خلف، وعُقْبَة بن أبي مُعيط، والأسود بن الأسد المخْزومي، والوليد بن عُتبة، والنَّضر بن الحارث، والعاص بن سعيد، وطعْمَة بن عدِيّ، وعشَرات من زُعَماء قريش، ومن أعلى مُستوى من مُسْتَوَياتهم .
فغزوَةُ أُحد كانت أخْذًا بالثَّأر لِهؤلاء القتْلى، فهذا وَحْشي الذي قتل سيِّدَنا حمزة -طبْعاً أسْلم- وبعد أنْ أسْلم يرْوي كيف قتله؟ يقول وَحْشي: كنتُ عَبْداً لِجُبَيْر بن مُطعم، وكان عمُّ جُبَيْر قد لَقِيَ مصْرَعَهُ يوم بدْرٍ، فقال له جُبَيْر: اُخْرج مع الناس، وإنْ أنت قتَلْتَ حمزة فأنت عتيق، ثمَّ أحالوه إلى هند بنت عُتبة زوجة أبي سُفْيان لِتَزيدهُ تحْريضاً ودفْعاً إلى الهدف، وكانت هند قد فَقَدَت في معركة بدْرٍ أباها وعَمَّها وأخاها وابنها، وقيل لها: إنَّ حمزة هو الذي قتل بعض هؤلاء، وأجْهَزَ على البعض الآخر، من أجل ذلك كانت هند بنت عتبة زوجة أبي سُفيان أكثر القُرَشِيات تَحْريضاً للخُروج للحرب، لا لِشَيْءٍ إلاّ لتظفر بِرَأسِ حمزة مهما يكُن الثمن، ولقد لَبِثَت أياماً قبل الخُروج وليس لها عمل إلا إفْراغُ كُلِّ حِقْدِها في صدْر وَحْشي، ورسْم الدَّوْر الذي يقومُ به، كُلُّ قلائِدِها وكُلُّ أساوِرِها وأقْراطِها وخلاخِلِها وزينتها هِبَةٌ لِهذا الوَحْشي إذا قتل حَمْزة .
يقول وَحْشي: 

((كُنتُ رجُلاً وحْشِياً حَبَشِياً، أقذِفُ بالحَرْبة قذْف الحَبَشَة، فقَلَّما أُخْطِئُ بها شيئاً، ولما الْتَقى الناس خَرَجْتُ أنظر حمزة وأتَبَصَّرُهُ، حتى رأَيْتُهُ في عَرْض الناس مثل الجمل الأورق، يَهُدُّ الناس بِسَيْفِه هداً، ما يقِفُ أمامه شيءٌ، فو الله بينما كنتُ أتَهَيَّأُ له أريدهُ وأسْتَتِرُ منه بِشَجَرَةٍ لِأتَقَحَّمَهُ، أو يَدْنُوَ مني إذْ تَقَدَّمني سُباعُ بن عبد العُزَّى فلما رآهُ حمزة صاح به قائِلاً: هلمَّ إليّ، ثمّ ضربه ضربةً فما أخْطأ رأسه، قال وحشي: عندئذٍ هَزَزْتُ حَرْبتي حتى إذا رضيتُ منها دَفَعْتُها حتى وقَعَتْ في ثُنَّتِهِ، أيْ تحت سُرَّتِه، حتى خرجت من بين رِجْلَيْه، ونهض نحوي ثم غلب على أمْره فمات، وأتَيْتُهُ فأَخَذْتُ حَرْبَتي، ثمَّ رَجَعْتُ إلى المُعَسْكر، فَقَعَدْتُ فيه، إذْ لم يكن لي فيه حاجةٌ، فقد قَتَلْتُهُ لأُعتَقَ .
ثم قال: لقد أمـرتْ هندُ بنت عُتبة وَحْشِياً أنْ يأتِيَها بِكَبِد حمزة، واسْتجاب الحَبَشِيُّ لِهذه الرغبة المذعورة، وعندما عاد بها إلى هند، كان يُناوِلُها الكبد بِيُمْناه، ويتلقى قِرْطها وقلائِدها بِيُسْراه، مُكافَأةً له على إنْجاز هذه المُهِمَّة))

المصيبة التي فجع لها النبي والمسلمين :

النبي عليه الصلاة والسلام حينما رأى سيّدنا حمزة قد قُتِل ومُثِّل به, قال:

((لن أُصابَ بِمِثْلِك أبداً))

أيْ هذه أكبرُ مصيبةٍ في حياتي، هكذا كان وفاءُ النبي وحُبُّهُ صلى الله عليه وسلَّم، وما وَقَفْتُ مَوْقِفاً قطُّ أغيَظ من مَوْقِفي هذا .تَرْوي بعضُ الكُتُب أنَّ أصْحابه تَمَنَّوا أنْ يُمَثِّل بقتلى قُرَيْش، فقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث بُرَيْدَةَ, قَالَ:

((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ, وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا, فَقَالَ: اغْزُوا بِسْمِ اللَّهِ, وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ, قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ, اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا))

[أخرجه الترمذي في سننه]

وَكَرِهَ أَهْلُ الْعِلْمِ الْمُثْلَةَ .

 

على مثلك أبو عمارة تبكي البواكي :

حينما انْصَرَفَ النبي من مَوْقِعة أُحد مرَّ على نِساءٍ من بني عبد الأشْهل يبْكينَ شُهَداءَهنّ ، فقال عليه الصلاة والسلام من فَرْط حنانه وحُبِّه: لكنَّ حمزة نام وما بُكِيَ له، فَهِم أصْحابه أنه لا بد من أن تأتي النِّساء لِتَبْكي حَمْزة، فلما سمع النبي البُكاء, قال: ما إلى هذا قَصَدْتُ، اِرْجِعْنَ يرْحَمْكُنَّ الله، فلا بُكاء بعد اليَوْم, كالنواح، وضرب الوجه، وتمْزيق الثياب .
أذكر أنني كُنتُ في جنازة فَخَرَجَتْ زوْجَةُ ذاك الشخْص المُتوفَّى إلى الطريق تُوَلْوِل حاسرة متكشفة, هكذا بلا شيءٍ، كل هذا من فِعْل الجاهِلِيَّة، أمّا مَوْتُهُ واسْتِشْهادُه كُلُّ هذا قضاءٌ وقدَر، والإنسانُ كلما ارْتقى إيمانه انضبطتْ أحْزانه, يبْكي ويتألَّم، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, قَالَ:

((دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ, وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام, فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ, ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ, فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ, فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: يَا ابْنَ عَوْفٍ, إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى, فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ))

[أخرجه البخاري في الصحيح]

كلمة قالها النبي عند قبر حمزة تهتز لها القلوب :

على هامِش هذه القِصّة عبرةٌ تَعْرِفونها جميعاً, فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما وقف على قَبْره قال هذه الكَلِمة:

((رَحْمَةُ الله عليك، فإنَّك كُنتَ كما عَلِمْتُ))

-اُنظر أيها المؤمن إلى الأدب مع الله، المؤمن لا يُزَكي على الله أحداً-

((وَصولاً للرحِم، فَعولاً للخَيْرات)).

مرَّةً حَضَرْتُ جنازَةً، قام أحدُ العلماء يُؤبِّنُهُ, وقد تأثَّرْتُ لما قاله هذا العالم, قال: إنَّ أخاكم أبا فلان كان مُؤذِّناً فَتَرَحَّموا عليه, خمسةٌ وسِتونَ عاماً عاشَها هذا المتوفى، ألم يسْتطِع هذا العالم أنْ يتكَلَّم عنه إلا بهذا؟! فقُلْتُ: هذا دليل على أنَّ الإنسان مهما كان يمْلك، ومهما قدَّم أثناء حياته، فإذا وافَتْهُ المَنِيَّة لا يتكلَّمون عنه أكثر من خمس دقائق، فهذه الدنيا فانِيَة، وبُطولتنا فيها أنْ نعمل عملاً صالِحاً نَرْقى به إلى الله .

 

إليكم موقف النبي الكريم من وحشي قاتل عمه :

يقول وحشي:

((لما قَدِمْتُ مكَّة أُعْتِقْتُ حسب الوَعْد، ثمَّ أقَمْتُ بها حتى دخلها النبي عليه الصلاة والسلام يوم الفتح، فهَرَبْتُ منها إلى الطائِف، فلما خرج وفْدُ الطائف إلى النبي عليه الصلاة والسلام لِيُسْلم ضاقَتْ عَلَيَّ المذاهب، وقُلْتُ: ألْحُق بالشام أو اليمن أو سِواهما، فو الله لأني في ذلك من هَمِّي وحُزْني إذْ قال لي رَجُلٌ: وَيْحَكَ إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لا يقْتُلُ أحداً من الناس يدْخُلُ في دينه, فَخَرَجْتُ حتى قَدِمْتُ على النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة فلم يرني إلا قائِماً أمامه أشْهَدُ شهادة الحقِّ, أشْهد أنْ لا إله إلا الله، وأشْهد أنَّ محمَّداً رسول الله، فلما رآني النبي, قال: أَوَحْشِيٌّ أنت؟! قلتُ نعم، يا رسول الله! فقال: حَدِّثْني كيف قَتَلْتَ حمزة؟ فَحَدَّثْتُهُ فلما فَرَغْتُ من حديثي, قال: وَيْحك! غَيِّبْ عني وَجْهَك، اللهم هذا قَسْمي فيما أمْلك، فأنا أملكُ أنْ أعْفُوَ عنه، ولكن لا أمْلكُ أنْ أراه! قتَلَ أحبَّ الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فَكُنْتُ أتنكَّبُ طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيثُ كان، أيْ لا أُواجِهُهُ حتى لا يراني حتى قبضه الله إليه قال: فلما خرجَ المُسلمون إلى مُسَيْلَمة الكَذاب -هذه بِتِلْك- صاحِبِ اليمامة خَرَجْتُ معهم وأخذْتُ حَرْبتي التي قَتَلْتُ بها حمزة فلما الْتقى الناسُ رأيـْتُ مُسَيْلمة الكذاب قائِماً في يده السَّيْف وتهيَّأتُ له وهَزَزْتُ حَرْبتي حتى إذا رَضيتُ منها دَفَعْتُها عليه فَوَقَعَتْ فيه، فإنْ كُنْتُ قد قتلْتُ خير الناس بحربتي هذه, وهو حَمْزة، فإني لأرْجو اللهَ أنْ يغفر لي إذْ قَتَلْتُ بها شرَّ الناس مُسيْلَمَة))

أنا قرأتُ بعض التاريخ الذي يتحدَّثُ عن فتْح القُدْس في عهْد الصَلِيبيين، فالصَلِيبِيُّون قتلوا في القدس سبْعين ألف مُسلمٍ في يومٍ واحد، ذبحوهم ذَبْحاً، فلما فتح القُدْس سيّدنا صلاح الدِّين عفا عنهم جميعاً وكان أرحم بهم من أنفسهم, هذا هو المؤمن، فهناك أخْلاقٌ شَرَعَها الله لنا . 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور